باب في أحكام النذر
النذر لغة : الإيجاب ، تقول : نذرت كذا : إذا أوجبته على نفسك . وتعريفه شرعا : إلزام مكلف مختار نفسه شيئا لله تعالى .
والنذر نوع من أنواع العبادة ، لا يجوز صرفه لغير الله تعالى ، فمن نذر لغير الله تعالى من قبر أو ملك أو نبي أو ولي ؛ فقد أشرك بالله الشرك الأكبر المخرج من الملة ؛ لأنه بذلك قد عبد غير الله ؛ فالذين ينذرون لقبور الأولياء والصالحين اليوم قد أشركوا بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله ؛ فعليهم أن يتوبوا إلى الله ، ويحذروا من ذلك ، وينذروا قومهم لعلهم يحذرون .
وحكم النذر ابتداء أنه مكروه ، وقد حرمه طائفة من العلماء ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر ، وقال : لأنه لا يرد شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل قال في " المنتقى " : " رواه الجماعة إلا الترمذي " ، ولأن الناذر يلزم نفسه بشيء لا يلزمه في أصل الشرع ، فيحرج نفسه ويثقلها بهذا النذر ، ولأنه مطلوب من المسلم فعل الخير بدون نذر .
لكن إذا نذر فعل طاعة ، وجب عليه الوفاء بذلك :
لقوله تعالى : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ .
وقال تعالى في وصف الأبرار : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا .
وقال تعالى : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ .
وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من نذر أن يطيع الله ؛ فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله ؛ فلا يعصه .
وقال الإمام ابن القيم : " الملتزم الطاعة لله لا يخرج عن أربعة أقسام : إما أن تكون بيمين مجردة ، أو بنذر مجرد ، أو بيمين مؤكدة بنذر ، أو بنذر مؤكد بيمين ؛ كقوله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ فعليه أن يفي به ، وإلا دخل في قوله : فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ وهو أولى باللزوم من أن يقول : لله علي كذا " انتهى .
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يشترط لانعقاد النذر أن يكون الناذر بالغا عاقلا مختارا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاثة : الصغير حتى يبلغ ، والمجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ ) فدل الحديث على أنه لا يلزم النذر من هؤلاء ؛ لرفع القلم عنهم .
ويصح النذر من الكافر إذا نذر عبادة ، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم ؛ لحديث عمر رضي الله عنه ؛ قال : إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك .
والنذر الصحيح خمسة أقسام :
أحدها : النذر المطلق مثل أن يقول : لله علي نذر ، ولم يسم شيئا ؛ فيلزمه كفارة يمين ، سواء كان مطلقا أو معلقا ؛ لما روى عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين رواه ابن ماجه والترمذي ، وقال : " حسن صحيح غريب " ؛ فدل هذا الحديث على وجوب الكفارة إذا لم يسم ما نذر لله عز وجل .
الثاني : نذر اللجاج والغضب : وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب ؛ كما لو قال : إن كلمتك ، أو : إن لم أخبر بك ، أو : إن لم يكن هذا الخبر صحيحا ، أو : إن كان كذبا ، فعلي الحج أو العتق ... ونحو ذلك ؛ فهذا النذر يخير بين فعل ما نذره أو كفارة يمين ؛ لحديث عمران بن حصين ؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نذر في غضب ، وكفارته كفارة يمين رواه سعيد في " سننه " .
الثالث : نذر المباح كما لو نذر أن يلبس ثوبه أو يركب دابته ، ويخير بين فعله وبين كفارة يمين إن لم يفعله ؛ كالقسم الثاني ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا شيء عليه في نذر المباح ؛ لما روى الإمام البخاري : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، إذا هو برجل قائم ، فسأل عنه ؛ فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم . فقال : مروه ؛ فليتكلم ، وليستطل ، وليقعد ، وليتم صومه . الرابع : نذر المعصية كنذر شرب الخمر وصوم أيام الحيض ويوم النحر ؛ فلا يجوز الوفاء بهذا النذر ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية ؛ لأن المعصية لا تباح في حال من الأحوال ، ومن نذر المعصية النذر للقبور أو لأهل القبور ، وهو شرك أكبر كما سبق ، ويكفر عن هذا النذر كفارة يمين عند بعض أهل العلم ، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم انعقاد نذر المعصية ، وأنه لا يلزمه به كفارة ، وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقال : " ومن أسرج قبرا أو مقبرة أو جبلا أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المضافين إلى ذلك المكان ؛ لم يجز ، ولا يجوز الوفاء به إجماعا ، ويصرف في المصالح ؛ ما لم يعلم ربه ... " انتهى .
الخامس : نذر التبرر : وهو نذر الطاعة كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه ، سواء كان مطلقا - أي : غير معلق على حصول شرط - كما لو قال : لله علي أن أصلي أو أصوم ... ، أو معلقا على حصول شرط ، كقوله : إن شفى الله مريضي ؛ فلله علي كذا ، فإذا وجد الشرط ؛ لزمه الوفاء به ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله ؛ فليطعه رواه البخاري ، ولقوله تعالى : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ولقوله تعالى : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ والله أعلم .
ـــــــــــــــــــ
من موقع العلامة / صالح بن فوزان الفوزان - وفقه الله تعالى -